السبت، 11 فبراير 2012


شكرا لويس سوريانو
إخلاصا ووفاءً للقراءة

سعيد بن سلطان الهاشمي






في البداية ليسمح لي العزيز لويس سوريانو[1] بأن أوجه له التحية والتقدير على جهده النبيل، وحرصه الصادق لأنه استنصر لروح الإنسان بإيجابيته، وتساميه على العراقيل، وسعيه نحو إضاءة الشموع بدلا من ذرف الدموع. إنسان كلويس يحمل بين جنبيه روح عصفور لا يهمه من يستمع لغنائه؛ عين صقر لا تحفل بالحواجز التي تحول بينه وبين هدفه، والأجمل أنه يعبر عن إنسانية رفيعة تؤمن بأن الغد على الدوام يحمل في حقيبته شيء مختلف؛ هذا المختلف يرتبط إلى حد ما بأحلامنا وأفكارنا وتطلعاتنا التي تصحبنا في اليوم والليلة.
 كما احيي؛"ألفا" و"بيتو" على تقديم عونهما للإنسان في سبيل أن يكون اقرب إلى نفسه.في عمان هناك فتية آمنوا بأثر القراءة والتنوير الذي تزرعه في النفوس وخاصة تلك النفوس التي أرهقها التعب، وأضناها اللهاث وراء لقمة العيش المستعصية. إذ أن تاريخ بلادنا حافل بنماذج   تؤصل لقيمة الإخلاص للقراءة وحبها رغم شظف الحياة وقسوتها؛ لذا نجد أوقافا ممتدة على طول الوطن وعرض أراضيه مخصصة للقراءة؛ فمنها ما كان مخصصا لنسخ الكتب والمخطوطات ومنها ما كان معينا لإنشاء خزانات كتب متنوعة الموضوعات. والغريب في الأمر أن من أوقفوا هذه الأموال كانوا من بسطاء الناس وليس من علمائهم أو تجارهم، ومن نساء لم يذقن حلاوة التعليم ولا قطفن جنان الشهرة والمجد. نحتاج إلى إضاءة  ولو صغيرة على هذه العتمة.
واليوم ما زال المسيرمستمراً؛ فأعلم يقيناً أن المكتبات "الأهلية" التي تنتشر في بهلا وبدية وصور وسمائل ونزوى وبطين والمصنعة وعبري وغيرها من مدن وقرى عمان جاءت بمبادرات شخصية وجماعية خالصة ومخلصة جداً، جاءت لتبرهن على ايجابية الإنسان وحرصه على التعلم والمعرفة. جاءت لتشكر أهلها ومجتمعها بخير ما يكون الشكر. فهي لم تنتظر المؤسسات الرسمية، ولم تعول على من يحرص على الشكر والحمد من الآخرين. بل على العكس من ذلك؛ تحدت عراقيل تنظيمية وبيروقراطية عديدة، وتجاوز بعضها التشكيك في النوايا الصالحة فاستمر وواصل، وأبقى أبوابه مفتوحة لكل باحث جاد عن المعرفة بكافة صنوفها.

فنحن لا تنقصنا مبادرات كمبادرة سوريانو؛ ما ينقصنا هو إضاءة هذه النماذج وإحيائها إعلاميا وثقافيا، والاحتفاء بها وبنبل مسعاها، لا أن نبالغ في تصنيفها بحسب القائمين على تلك المبادرات رغم ندرتها. فلماذا نأخذ موقفا من القراءة في مكتبة سعى في نشأتها أناس صنفناهم بأنهم دينيون وكأننا نحن لسنا كذلك، أو بشر يحتفلون بالكتاب الحديث وكأن عقولنا ستتغير بمجرد قراءة رواية أو قصيدة أو نص مترجم.
داؤنا فينا، ودواؤنا في تزكية نفوسنا من عوالق الجهل والتخلف المغلفان بالتعالم والادعاء بأن ما يدور في خلدنا من أفكار لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها. ثم على وسائل إعلامنا، ومؤسسات الثقافة عندنا؛ أن تنصف تلك الجهود التي تعاني من التهميش والتجاهل، وتقدم لها أقصى درجات الدعم والمساندة. وعدم التوقف عند الأسئلة البدائية المعرقلة؛ " ومن يقرأ؟" "ولماذا نكدس الكتب؟"
أما مطالبة الدولة وبالذات الحكومة بتوفير مكتبات عامة فذلك حق للناس ، وواجب على الدولة، فلا فضل ولا منة في ذلك. فالدولة؛ حكومة وشعباً؛ إذا ما أرادت أن ترقى ويسمو الفكر الذي تنمو به، وتعيش معه؛ لابد من أن تربي أجيالها على حب القراءة والتربية بها.
 شكرا لسوريانو لأنه من غابات كولومبيا البعيدة، ومن مجتمع كولومبيا الفقير والمخدر بالأفيون والماريجوانا أيقض فينا سؤال خلناه غط في سبات عميق، انه " لماذا، وكيف، وأين نقرأ؟" نحن الأمة التي ندعي أنها أمة "أقرأ" وخير امة أخرجت للناس؟!


[1] لويس سوريانو) ليس لاعبًا في المنتخب البرازيلي، رغم أنّ الاسم يؤهل لذلك. هو من أبناء أمريكا الجنوبية أيضًا، حيث كرة القدم حياة وهواء ورسالة، بيد أنّ لويس سوريانو له ولع خاصٌ وفضاء يتنفس فيه ورسالة يؤديها، تركت أثرًا أزعمُ أنه لا يقل عن أثر المنتخب البرازيلي. سوريانو كان صبيًا يعيش في قرية (لا غلوريا) في أرياف كولومبيا، لم يجد متنفسًا للترفيه إلا في القراءة، مع الكتب التي كان يحصل عليها في المدرسة. أنهى سوريانو دراسته ثم حصل على شهادة في الأدب الأسباني، وعمل مدرسًا في مدرسةٍ ابتدائية في قريته.
وفي سنوات عمله في المدرسة اكتشف سوريانو أثر القراءة على طلابه، وفي الوقت نفسه اكتشف الصعوبات التي يعاني منها الكثير من الطلاب مع واجباتهم الدراسية لأنهم لا يملكون كتبًا تساعدهم على تطوير مهاراتهم القرائية وإكمال فروضهم. وهكذا قرر سوريانو أن يأخذ على عاتقه نشر القراءة بين أطفال القرى مهما كان الثمن. وفعلا بدأ مشروعه النبيل بطريقةٍ بسيطة جدًا، عميقة الأثر في الوقت نفسه. ما فعله سوريانو هو أنه أنشأ مكتبة عامة بنفسه. هذه المكتبة تتكون من سوريانو، ومجموعة من الكتب، وحمارين! منذ عشر سنوات حتى الآن، في نهاية كل أسبوع، يختار سوريانو مجموعة من الكتب ويحملها وينتقل بها مع حماريه (سمّاهما ألفا و بيتو)، ويطوف على القرى بين الهضاب والوديان ليصل إلى الأطفال الذين ينتظرونه هناك كي يوزّع عليهم من كتبه، ويقرأ لهم منها، ويساعدهم في دروسهم.
يقول لويس سوريانو أنه بدأ بمجموعة من 70 كتابًا فقط، أما الآن فلديه حوالي 4800 كتابًا جمعها بنفسه ومن خلال التبرعات التي انهالت عليه بعدما أُذيع برنامج عن مبادرته في الإذاعة.


هناك تعليق واحد:

  1. أحييك يا صديقي العزيز على هذه المقالة الرائعة. تفاجأت بقراءتها هنا! لم تخبرني أبداً أنك كتبت مقالة شكر إلى لويس سوريانو! ما كتبته عن هذا العاشق الجميل للكتب، عن هذا الحالم النبيل الذي يطوف القرى الجبلية كي يوصل نور المعرفة إلى الأطفال والناس البسطاء، ما كتبته عنه هو لمسة وفاء جميلة! ربما لن تترجم مقالتك الجميلة، وربما لن تبارح هذه المدونة، ولكنني أثق أن المشاعر الطيبة في هذه المقالة ستصل إلى لويس سوريانو، ستوصلها الطيور المهاجرة، أو ربما السحب العابرة، أو هبات النسيم التي تعبر البراري والبحار نحو الأراضي البعيدة! وحتماً سيشعر لويس سوريانو أن نسمة هواء قادمة من مكان بعيد تحييه، وأنها قادمة له خصيصاً لتبثه تقدير الناس في الأماكن البعيدة لجهوده الطيبة في نشر القراءة والمعرفة! أو ربما ستبوح له حبات المطر الخفيفة التي ستبلل وجهه بمحبة بأن هنالك من يشكره في أقصى الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية، أو قد تبوح له الطيور القادمة من البعيد البعيد، والمغردة فوق رأسه بالسلامات والتحايا الطيبة، وتشدو له بأن رسالته المعرفية قد وصلت إلى أبعد من القرى التي قطعها على ظهر حماره! شكراً لك على هذه التحية الرائعة لإنسان بسيط وجميل في أقصى الكرة الأرضية، شكراً كثيراً لك، فإلى مثل هؤلاء الناس ينبغي أن يلتفت الإنسان والكاتب. محبتي
    ناصر صالح
    الأحد، الساعة الواحدة ليلاً، 12 فبراير 2012

    ردحذف